الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأجيب عن ذلك بأنَّ التسكين لتوالي الحركات. وإنْ كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160]: {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67]. وأُجيب أيضًا بأنه جُزِم على التوهُّم، يعني لَمَّا كانت: {مَنْ} الموصولةُ تُشْبه: {مَنْ} الشرطية. وهذه عبارةٌ فيها غَلَطٌ على القرآن فينبغي أن يُقال: فيها مراعاةٌ للشبه اللفظي، ولا يقال للتوهُّم. وأجيب أيضًا بأنه سُكِّن للوقف ثم أُجري الوصلُ مجرى الوقفِ. وأُجيب أيضًا بأنه إنما جُزم حملًا ل: {مَنْ} الموصولة على: {مَنْ} الشرطية؛ لأنها مثلُها في المعنى ولذلك دَخَلَتِ الفاءُ في خبرها.قلت: وقد يُقال على هذا: يجوز أن تكونَ: {مَنْ} شرطيةً، وإنما ثَبَتَت الياءُ، ولم تَجْزِمْ: {مَنْ} لشببها ب: {مَنْ} الموصولة، ثم لم يُعْتبر هذا الشبهُ في قوله: {ويَصْبر} فلذلك جَزَمَه إلا أنه يَبْعُدُ مِنْ جهة أنَّ العامل لم يؤثِّر فيما بعده، ويليه ويؤثرِّ فيما هو بعيدٌ منه. وقد تقدَّم الكلامُ على مثل هذه المسألة أولَ السورة في قوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12].وقوله: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ} الرابطُ بين جملة الشرط وبين جوابها: أمَّا العمومُ في: {المحسنين}، وإمَّا الضميرُ المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام أل مُقامه والأصل: مُحْسِنيهم، قامَتْ أل مُقام ذلك الضمير.{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}قوله تعالى: {آثَرَكَ}: أي: تَفَضَّل عليك، والإِيثار: التفضيلُ بجميع أنواع العطايا، آثَره يُؤْثِره إيثارًا، وأصلُه مِن الأَثَر وهو تَتَبُّع الشيءِ فكأنه يَسْتقصي جميعَ أنواع المكارم، وفي الحديث: «ستكون بعدي أثَرة»، أي: يَسْتأثر بعضكُم على بعض، ويقال: استأثر بكذا، أي: اختصَّ به، واستأثر اللَّه بفلانٍ كنايةٌ عن اصطفائه، قال الشاعر:
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}قوله تعالى: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} {عليكم} يجوز أن يكون خبرًا ل: {لا}، و: {اليومَ}: يُحتمل أن يتعلَّقَ بما تعلَّق به هذا الخبر، أي: لا تثريبَ مستقرٌّ عليكم اليومَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ: {اليوم} خبرَ: {لا} و: {عليكم} متعلقٌ بما تعلَّق به هذا الظرفُ. ويجوز أن يكون: {عليكم} صفةً لاسم: {لا}، و: {اليوم} خبرُها أيضًا، ولا يجوز أن يتعلق كلٌّ مِن الظرف والجارِّ ب: {تَثْريب} لأنه يصير مُطَولًا شبيهًا بالمضاف، ومتى كان كذلك أُعْرِب ونُوِّن نحو: لا خيرًا مِنْ زيد عندك، ويزيدُ عليه الظرفُ: بأنه يَلْزم الفصلُ بين المصدرِ المؤول بالموصولِ ومعموله بأجنبي وهو: {عليكم} لأنه: إمَّا خبر وإمَّا صفة.وقد جَوَّز الزمخشري أن يكونَ الظرفُ متعلقًا ب: {تَثْريب} فقال: فإنْ قلت: بِمَ يتعلَّق اليوم؟ قلت: بالتثريب أو بالمقدَّر في: {عليكم} من معنى الاستقرار، أو ب: {يَغْفر}. قلت: فَجَعْلُه أنَّه متعلقٌ ب: {تَثْريب} فيه ما تقدم. وقد أَجْرَى بعضُهم الاسمَ العاملَ مُجرى المضافِ لشبهه به فَيُنْزَع ما فيه من تنوينٍ أو نون، وجعل الفارسي من ذلك قوله: قال: فأيَّةً منصوب بكُفْران، أي: لا أكفر اللَّهَ رحمة لنفسي. ولا يجوزُ أن تُنْصب: أيَّةً بأَوَيْت مضمرًا؛ لئلا يَلْزمَ الفصلُ بين مفعولي: أرى بجملتين: أي ب: لا وما في حَيِّزها، وب: أَوَيْت المقدرة. ومعنى أَوَيْت رَقَقْت. وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث: «لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل» برفع «يومٌ» على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري وفعل مبني للمفعول، وفي بعض ما تقدم خلافٌ لا يَليقُ التعرُّضُ له هنا.وأمَّا تعليقُه بالاستقرار المقدر فواضِحٌ، ولذلك وقف أكثرُ القراءِ عليه، وابتدأ ب: {يَغْفِرُ الله لَكُمْ}، وأمَّا تعليقُه ب: {يَغْفر} فواضِحٌ أيضًا ولذلك وقف بعضُ القرَّاء على: {عليكم} وابتدأ: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ}، وجوَّزوا أن يكونَ: {عليكم} بيانًا كلك في نحو سقيًا لك، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوف، ويجوز أن يكونَ خبرُ لا محذوفًا، وعليكم واليوم كلاهما متعلقان بمحذوفٍ آخر يدل عليه تثريب، والتقدير: لا تثريب يَثْرِبُ عليكم اليومَ، كما قَدَّروا في: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] لا عاصمَ يَعْصِم اليومَ. قال الشيخ: لو قيل به لكان قويًا.وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ هنا يلزم كثرةُ المجاز، وذلك أنَّك تَحْذف الخبر، وتَحْذف هذا الذي تَعَلَّق به الظرفُ وحرفُ الجر وتَنسِب الفعل إليه؛ لأن التثريب لا يَثْرِب إلا مجازًا كقولهم: شعرٌ شاعر بخلاف عاصم يَعْصِم فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حَذْف شيءٍ واحدٍ من غير مجاز، وهنا حَذْف شيئين مع مجاز.والتَّثْريبُ العَتْب والتأنيب، وعَبَّر بعضُهم عنه بالتعيير، مِنْ عَيَّرته بكذا إذا عِبْته به، وفي الحديث: «إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها ولا يُثَرِّبْ»، أي: لا يُعَيِّر، وأصله مِن الثَّرْب وهو ما يَغْشى الكَرْش من الشحم، ومعناه إزالة الثَّرْب كما أن التجليدَ إزالة الجِلْد، فإذا قلت: ثَرّبْتُ فلانًا فكأنك لشدة عَيْبَتِك له أَزَلْت ثَرْبَه فضُرِب مَثَلًا في تمزيق الأعراض.وقال الراغب: ولا يُعْرف مِنْ لَفْظِه إلا قولُهم الثَّرْب وهو شَحْمة رقيقة، وقولُه تعالى: {يا أهل يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] يَصِحُّ أن يكونَ أصلُه من هذا الباب والياءُ في مزيدة. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ}لما دخلوا على يوسف خاطبوه بذكر الضُّرِّ، ومقاساة الجوع والفقر، ولم يذكروا حديث يوسف عليه السلام، وما لأجله وَجَّهَهُم أبوهم.ويقال استلطفوه بقولهم: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم.ويقال لمَّا طالعوا فقرهم نطفوا بقدرهم فقالوا: وجئنا ببضاعة مزجاة- أي رديئة- ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا: {فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ}.ويقال قالوا كلنا كيلًا يليق بفضلك لا بفقرنا، وبكرمك لا بعدمنا، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}: نَزَلَوا أوْضَعَ مَنْزلٍ؛ كأنهم قالوا: إنْ لم نستوجِبْ معاملةَ البيع والشراء فقد استحققنا بَذْلَ العطاءِ، على وجه المكافأة والجزاء.فإِنْ قيل كيف قالوا وتصدَّقْ علينا وكانوا أنبياء- والأنبياء لا تحل لهم الصدقة؟فيقال لم يكونوا بعد أنبياء، أو لعلّه في شرعهم كانت الصدقةُ غيرَ مُحَرَّمةٍ على الأنبياء.ويقال إنما أرادوا أنَّ مِنْ ورائنا مَنْ تَحِلُّ له الصدقة.{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)}افتضحوا بحضرة بوسف عليه السلام وقالوا: {فَأَوفِ لَنَا الكَيْلَ} فعرفهم فعلمهم ووقفهم عند أحدهم فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ يعني إنَّ مَنْ عَامَل يوسفَ وأخاه بمثل معاملتكم فلا ينبغي له أن يتجاسَرَ في الخطاب كتجاسركم.ويقال إن يوسف عليه السلام قال لهم: أنهيتم كلامكم، وأكثرتم خطابكم، فما كان في حديثكم إلا ذكر ضرورتكم.. أفلا يخطر ببالكم حديث أخيكم يوسف؟! وذلك في باب العتابِ أعظم من كلِّ عقوبة.ولمَّا أخجلهم حديث العتاب لم يَرْضَ يوسفُ حتى بسط عندهم فقال: {إِذْ أَنتًمْ جَاهِلُونَ}.{قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)}في الابتداء حين جهلوه كانوا يقولون له في الخطاب: {يا أيها العزيز} فلمّا عرفوه قالوا: {أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ}؛ لأنه لمَّا ارتفعت الأجنبيةُ سقط التكلُّف في المخاطبة، وفي معناه أنشدوا:ويقال إنَّ التفاصُلَ والتفارُقَ بين يوسف وإخوته سَبَقا التواصلَ بينه وبين يعقوب عليهما السلام؛ فالإخوةُ خَبَره عرفوه قبلَ أنْ عَرَفَه أبوه ليعلَم أن الحديث بلا شكٍ.ويقال لم يتقدموا على أبيهم في استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته، بل إنهم- وإن عرفوه- فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة، وإنما كان غرضُهم حديثَ الميرة والطعام فقط، فقال: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى}: يعني إني لأَخٌ لِمِثْلِ هذا لمثلكم؛ ولذا قال: {أَنَّا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى}، ولم يقل وأنتم إخوتي، كأنَّه أشار إلى طرفٍ من العتاب، يعني ليس ما عاملتموني به فِعْلَ الإخوة.ويقال هَوَّنَ عليهم حالَ بَدَاهَةِ الخجلة حيث قال: {أَنَا يُوسُفُ} بقوله: {وَهَذَا أَخِى} وكأنه شَغَلَهم بقوله: {وَهَذَا أَخِى} كما قيل في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] إنه سبحانه شَغَلَ موسى عليه السلام باستماع: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] بمطالعة العصا في عين ما كوشِف به من قوله: {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} [طه: 14].ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر في مقاساة الجهد والعناء فقال: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.وسمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله- يقول لما قال يوسف: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} أحَالَ في استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر... فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} يعني ليس بِصْبرِك يا يوسفُ ولا بتقواك، وإنما هو بإيثار اللَّهِ إياك علينا؛ فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك. فقال يوسف- على جهة الانقياد للحقِّ-: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ}، فأسقط عنهم اللوم، لأنه لمَّا لم يَرَ تقواه من نفسه حيث نبَّهوه عليه نَطَقَ عن التوحيد، وأخبر عن شهود التقدير.{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}اعترفوا بالفضل ليوسف عليه السلام حيث قالوا: لقد آثرك الله علينا، وأكَّدوا إقرارَهم بالقَسَم بقوله: {تَاللَّهِ} وذلك بعد ما جحدوا فَضْلَه بقولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد، ومن شهد فما جحد.ويقال لمَّا اعترفوا بفضله وأقرُّوا بما اتصفوا به من جُرْمِهم بقولهم: {وإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وجدوا التجاوزَ عنهم.{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}أسرع يوسفُ في التجاوز عنهم، وَوَعَد يعقوبُ لهم بالاستغفار بقوله: {سَوْفَ أَستَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى} لأنه كان أشدَّ حباَ لهم فعاتبهم، وأما يوسف فلم يرهم أهلًا للعتاب فتجاوز عنهم على الوهلة، وفي معناه أنشدوا: ويقال أصابهم- في الحال- مِنَ الخجلة مقام كلِّ عقوبة، ولهذا قيل:كفى للمقصِّر الحياءُ يوم اللقاء. اهـ. .تفسير الآيات (93- 98): قوله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما أقر أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى، بقي ما يخص أباهم من ذلك، فكأنه وقع السؤال عنه فأجيب بقوله: {اذهبوا بقميصي} ولما كان قوله هذا ربما أوقع في أفهامهم قميصه الذي سلبوه إياه، احترز عن ذلك بقوله: {هذا فألقوه} أي عقب وصولكم: {على وجه أبي يأت} أي يرجع إلى ما كان: {بصيرًا} أو يأت إلى حالة كونه بصيرًا، فإنه إذا رد إليه بصره وعلم مكاني لم يصبر عن القصد إليّ لما عنده من وفور المحبة وعظيم الشوق، وكونه قميصًا من ملابس يوسف المعتادة أدخل في الغرابة وأدل على الكرامة؛ والقميص ألصق الثياب بالجسم، فإظهار الكرامة به أدل على كمال دين صاحبه وعراقته في أمور الإيمان، وهو يؤول في المنام بالدين، وذلك أدخل في كمال السرور ليعقوب عليه الصلاة والسلام: {وأتوني} أي بأبي وأنتم: {بأهلكم} أي مصاحبين لهم: {أجمعين} لا يتخلف منهم أحد، فرجعوا بالقميص لهذا القصد، قيل: كان يهوذا هو الذي حمل قميصه لما لطخوه بالدم، فقال: لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما ثمانون فرسخًا: {ولما فصلت العير} من العريش آخر بلاد مصر إلى بلاد الشام: {قال أبوهم} لولد ولده ومن حوله من أهله، مؤكدًا لعلمه أنهم ينكرون قوله: {إني لأجد} أي لأقول: إني لأجد: {ريح يوسف} وصدهم عن مواجهته بالإنكار بقوله: {لولا أن تفندون} أي لقلت غير مستح ولا متوقف، لأن التفنيد لا يمنع الوجدان، وهو كما تقول لصاحبك: لولا أن تنسبني إلى الخفة لقلت كذا، أي إني قائل به مع علمي بأنك لا توافقني عليه،: {وفصل} هنا لازم يقال: فصل من البلد يفصل فصولًا، والفصل: القطع بين الشيئين بحاجز، والوجدان: ظهور من جهة إدراك يستحيل معه انتفاء الشيء، والريح: عرض يدرك بحاسة الأنف أي الشم، والتفنيد: تضعيف الرأي بالنسبة إلى الفند، وهو الخوف وإنكار العقل من هرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال:عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فيفندها كبرها؛ ثم استأنف حكاية جوابهم فقال: {قالوا} أي السامعون له ما ظنه بهم، مقسمين بما دل على تعجبهم، وهو: {تالله} أي الملك الأعظم، وأكدوا لمعرفتهم أنه ينكر كلامهم وكذا كل من يعرف كماله: {إنك لفي ضلالك} أي بحيث صار ظرفًا لك: {القديم} أي خطئك في ظن حياة يوسف؛ قال الرماني: والضلال: الذهاب عن جهة الصواب.فصحح الله قوله وحقق وجدانه، وعجلوا إليه بشيرًا فأسرع بعد الفصول، ولذلك عبر بالفاء في: {فلما} وزيدت: {أن} لتأكيد مجيئه على تلك الحال وزيادتها قياس مطرد: {جاء البشير} وهو يهوذا بذلك، معه القميص: {ألقاه} أي القميص حين وصل إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام من غير فاصل ما بين أول المجيء وبينه كما أفادته زيادة: {أن} لتأكيد ما تفيده: {لما} من وقوع الفصل الثاني وهو هنا الإلقاء عقب الأول وترتبه عليه وهو هنا المجيء: {على وجهه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام: {فارتد} من حينه: {بصيرًا} والارتداد: انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، فالتفت الخاطر إلى حاله مع فنده، فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفًا: {قال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام: {ألم أقل لكم}: إني أجد ريحه؛ ثم علل هذا التقرير بقوله مؤكدًا لأن قولهم قول من ينكر: {إني أعلم من الله} أي المختص بصفات الكمال: {ما لا تعلمون} لما خصني به تعالى من أنواع المواهب، وهو عام لأخبار يوسف عليه الصلاة والسلام وغيرها، وهو من التحديث بنعمة الله.ولما كان ذلك تشوفت النفس إلى علم ما يقع بينه وبين أولاده في ذلك، فدفع عنها هذا العناء بقوله: {قالوا ياأبانا} منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع: {استغفر} أي اطلب من الله أن يغفر: {لنا ذنوبنا} ورد كل ضمير من هذه الضمائر إلى صاحبه في غاية الوضوح، فلذلك لم يصرح بصاحبه.ولما سألوه الاستغفار لذنوبهم، عللوه بالاعتراف بالذنب، لأن الاعتراف شرط التوبة- كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» فقالوا مؤكدين تحقيقًا للإخلاص في التوبة: {إنا كنا خاطئين} أي متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف علية الصلاة والسلام؛ ثم حكى جوابه بقوله مستأنفًا: {قال} أي أبوهم عليه السلام مؤكدًا لكلامه: {سوف أستغفر} أي أطلب أن يغفر: {لكم ربي} أي الذي لم يزل يحسن إليّ ويربيني أحسن تربية، فهو الجدير بأن يغفر لبني حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء؛ والربوبية: ملك هو أتم الملك على الإطلاق، وهو ملك الله تعالى لإنشاء الأنفس باختراعها وتصريفها أتم التصريف من الإيجاد والإعدام والتقليب من حال إلى حال في جميع الأمور من غير تعب؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه هو} أي وحده: {الغفور الرحيم} كل ذلك تسكينًا لقلوبهم وتصحيحًا لرجائهم ليقوى أملهم، فيكون تعالى عند ظنهم بتحقيق الإجابة وتنجيزًا لطلبه؛ ولعله عبر ب: {سوف} لتقديم هاتين الجملتين على المسألة لما ذكرته من الأغراض، وقيل: لأنه أخر الدعاء إلى صلاة الليل، وقيل: إلى ليلة الجمعة؛ وقيل: يؤخذ منها أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ. اهـ.
|